السبت، أكتوبر 27، 2007

القاعدة العسكرية الأميركية في لبنان: حلم عمره خمسون عاماً

بات الحديث عن إقامة قاعدة عسكرية أميركية في لبنان متواتراً إلى درجة تحوّل معها إلى لازمة يرددها الكثير من اهل السياسة في تصريحاتهم، فيما تتوارد
المعلومات من أكثر من مصدر، وهي تركز على وجود مشروع أميركي لإقامة هذه القاعدة في منطقة الشمال، وبالتحديد في قاعدة القليعات الجوية ومحيطها.‏
هل تكتسب هذه المعلومات مصداقية ما، وهل يفكر الأميركيون فعلاً بهذا الأمر؟‏
إن مراجعة دقيقة لتاريخ "العلاقة" بين لبنان وأميركا تدل على وجود نية أميركية حقيقية لاتخاذ لبنان ككل، أو جزء منه على الأقل، مقراً لقوة أميركية تلعب دوراً أساسياً في التدخل السريع في المنطقة.‏
ويعود الأمر إلى بدء الدخول الأميركي الفعلي إلى المنطقة بعد حرب السويس بين مصر من جهة وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل من جهة أخرى عام 1956 والتي انتهت بخروج فرنسا وبريطانيا كقوتين عظميين، واحتلال الولايات المتحدة لموقعهما الاستراتيجي.‏
وكان أول نزول أميركي على الأرض اللبنانية عام 1958 حيث نزلت قوات "البوليس الدولي" من أجل حماية نظام الرئيس كميل شمعون الذي وضع نفسه في خانة التحالف الأميركي (حلف بغداد) في مواجهة المد العروبي الناصري في تلك الفترة.‏
إلا أن القوات الأميركية عادت وانسحبت من لبنان خلال تلك السنة بعد الاتفاق الذي عقده الرئيس فؤاد شهاب مع "رئيس الجمهورية العربية المتحدة" جمال عبد الناصر في الخيمة التي نصبت على الحدود بين البلدين (بين لبنان وسوريا التي كانت جزءاً من الجمهورية العربية المتحدة) وقضى بأن تنسحب القوات الأميركية من لبنان وأن لا يدخل لبنان في أحلاف معادية للجمهورية العربية المتحدة مقابل أن لا تتدخل الجمهورية العربية المتحدة بالشؤون اللبنانية.‏
وقد "نام" المشروع الأميركي الهادف إلى إنشاء قاعدة عسكرية في لبنان حتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي، حين حصلت تغييرات جيواستراتيجية كبرى في المنطقة مع انتصار الثورة الاسلامية في إيران حيث انهار السد الذي كان الأميركيون يدعمونه في مواجهة الاتحاد السوفياتي، ما عزز الأخطار التي تتهدد الهيمنة الأميركية على نفط الخليج، سواء لجهة خروج ايران من منظومة الهيمنة الأميركية وتحولها إلى خطر يتهدد هذه الهيمنة، أو لإمكانية قيام الاتحاد السوفياتي باحتلال ايران التي لم تعد تتمتع بالمناعة العسكرية التي كانت توفرها لها الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعل السوفيات يصلون إلى مياه الخليج الدافئة ويهددون السيطرة الأميركية على نفط الخليج.‏
إزاء ذلك كان لا بد من خطوة استراتيجية كبرى تقوم بها الولايات المتحدة لمنع حصول هذا السيناريو، فكان التفكير بإنشاء قوات التدخل السريع التي تحتاج إلى قواعد عسكرية ضخمة وثابتة في المنطقة، تسمح للأميركيين بالتدخل في أي منطقة تتعرض للخطر الإيراني أو السوفياتي وبشكل سريع جداً.‏
وقد أنشأت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية ضخمة جداً في تبوك وضعت فيها عتاداً عسكرياً ضخماً، فيما يتم إحضار العنصر البشري في حالة الحاجة عبر الطائرات خلال ثمان وأربعين ساعة.‏
وكانت الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى قاعدة أخرى في شرق المتوسط تتوازى مع القاعدة الأميركية في تبوك، فعاد مشروع إقامة القاعدة الأميركية في لبنان إلى الضوء.‏
ويرى مراقبون أن الاجتياح الصهيوني إلى لبنان عام 1982 يملك ـ إلى جانب أهدافه المتعلقة بإزالة منظمة التحرير الفلسطينية والسيطرة الاسرائيلية على لبنان ـ أهدافاً أميركية تتعلق بإنشاء القاعدة الأميركية في لبنان، وقد ظهر ذلك جلياً من خلال إنزال قوات المارينز الأميركية على الأراضي اللبنانية.‏
ويقول متابعون للأحداث في تلك الفترة إن الولايات المتحدة كانت تعمل جدياً على إنشاء قاعدة عسكرية في لبنان في تلك الفترة.‏
وقال أحد ضباط الجيش اللبناني المتقاعدين الذين عايشوا تلك الفترة وكانوا على تواصل مع قوات المارينز الأميركية في لقاء خاص إن المشروع الأميركي كان يقضي بإنشاء القاعدة العسكرية في المنطقة بين بيروت وصيدا، وهي تضم مطارين عسكريين، الأول في مطار بيروت الدولي والثاني في سهل الدامور، حيث أنشأ الصهاينة مطاراً عسكرياً خلال احتلالهم لتلك المنطقة.‏
ويذكر الضابط أنه ـ بصفته ضابط ارتباط مع المارينز في تلك الفترة ـ كان يبحث مع الضباط الأميركيين في كيفية تأمين هذه المنطقة من الأخطار الأمنية التي كانت تتهددها ولا سيما من خلال وجود طائفة معينة بمحاذاة مطار بيروت حيث كان التفكير بنقل أبناء هذه الطائفة من تلك المنطقة لحماية أمن القاعدة الأميركية المنشودة.‏
وقد بدأ مشروع التهجير فعلاً من خلال الهجمة التي شنّها الجيش في تلك الفترة على الضاحية الجنوبية والتي تصدى لها أبناء الضاحية، ومعهم بعض القوات العسكرية التي رفضت تنفيذ الأوامر ومهّدت لما سمّي بعد ذلك بانتفاضة السادس من شباط عام 1984.‏
وكان للأحداث التي جرت في تلك الفترة دور كبير في تقويض المشروع الأميركي وتحطيم حلم تحويل لبنان إلى قاعدة أميركية متقدمة في المنطقة.‏
هذا المشروع الأميركي عاد إلى الظهور مجدداً بعد الفشل الأميركي المدوي في غزو العراق، حيث كان المخطط الأميركي يقضي بتحويل ذلك البلد إلى قاعدة اميركية كبرى، ولكن ما تعرض له الأميركيون هناك جعلهم يفكرون بخطة خلفية للانسحاب عبر إيجاد بديل عن تلك القاعدة، وعاد التفكير بلبنان ليكون مقر هذه القاعدة.‏
وتؤكد الكثير من المعلومات أن التفكير بهذه القاعدة بدأ قبل عام 2005 وأن الهجمة الأميركية على النظام في لبنان والتي بدأت مع القرار 1559 عام 2004 لها علاقة مباشرة بهذه الخطة الاستراتيجية الأميركية.‏
ويمكن في هذا المجال التذكير بمسألة مهمة وهي ان شائعات كثيرة راجت في الأيام التي تلت عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شهر شباط عام 2005 ومفادها أن الأميركيين قتلوا رفيق الحريري لأنه رفض السماح لهم بإنشاء قاعدة عسكرية جوية في القليعات.‏
واليوم يعود الحديث بقوة عن إنشاء هذه القاعدة ولا سيما بعد الأحداث التي جرت في مخيم نهر البارد، والتي يضعها الكثير من المراقبين في سياق العمل على "تنظيف" الأرض المحيطة بقاعدة القليعات من "الشوائب" وتأمين بيئة مناسبة لقيام القاعدة العسكرية الأميركية.‏
وتتكاثر المعلومات والتصريحات التي تتحدث عن الموضوع بشكل يثير الانتباه، ولا سيما في ظل الموقف الأميركي الرافض لأي تسوية على الساحة اللبنانية، بما يوحي أن الأميركيين يرغبون بأن يتحول لبنان إلى مسرح للحركة الأميركية بعيداً عن أي تعقيدات.‏
وقد جاءت اللقاءات المكثفة التي عقدت بين عدد من المسؤولين السياسيين والعسكريين الأميركيين ونظرائهم اللبنانيين لترفع سقف التساؤل حول الأهداف الكامنة وراء تلك اللقاءات والمشاريع التي يسعى الأميركيون لتسويقها خلالها.‏
إنه "الحلم الأميركي" الذي تحطم على الصخرة اللبنانية على مدى العقود الماضية، ولا يبدو أن مصيره سيكون مختلفاً هذه المرة.‏
محمود ريا‏

الاشتراكية ذات الخصائص الصينية

افتتاحية العدد 20 ـ 21 من نشرة "الصين بعيون عربية"
"وجهة النـظر العلمية للتنمية" هي الرسالة التي حملها المؤتمر السابع عشر للحزب الشيوعي الصيني، أكبر الأحزاب الصينية، وأكبر الأحزاب في العالم مع أعضائه الذين يزيد عددهم على الثلاثماية وستين مليوناً.
رسالة دخلت إلى الدستور الصيني وعبرت عن نفسها بالسعي لإضفاء نكهة صينية على كل شيء في العالم: الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، والديموقراطية على الطريقة الصينية، والنمو من خلال الأرقام الصينية.. العملاقة.
وبقدر ما كان المؤتمر الذي رسم الطريق التي ستسير عليها الصين خلال السنوات الخمس المقبلة فرصة لإظهار التفرد الصيني، فهو كان أيضاً مجالاً لبحث الكثير من المشاكل التي تعاني منها هذه الكتلة البشرية العملاقة التي تشهد في داخلها كل ما يمكن تخيله من تناقضات: الثراء الفاحش مقابـل الفقر المدقع، النقاش الحيوي المترافق مع الانضباط الصارم، التوق إلى مستقبل التفوق مع التخوف من العجز عن تلبية الحاجات المتعاظمة.
ومع التغيرات البارزة التي شهدتها القيادة الصينية خلال المؤتمر تبين وجود رغبة حقيقية في تجديد الطاقم الحاكم لمواكبة التحديات المستقبلة مع ضمان تحكم الأمين العام للحزب هو جين تاو ـ الذي سيبقى في موقعه لخمس سنوات قادمة ـ بالتوجهات الرئيسية للبلاد، وربما بمن سيأتي بعده في الموقع والمهمة، وهو ما يشير إلى تنبه كبير إلى المخاطر الجدية التي تفرزها عملية التنمية العملاقة التي تشهدها الصين.
وإذا كان من غير المتوقع أن يتخذ مؤتمر للحزب الشيوعي قراراته بغير الإجماع الذي يخفي تحته الكثير من الاختلاف في وجهات النظر حول السبل الأنجع لمعالجة مشكلات البلاد، فإنه من اللافت للنظر أن يحضر في مؤتمر لحزب شيوعي الأمين العام السابق للحزب المؤتمر، بما يشير إلى حصول تداول طبيعي للسلطة وتجديد للقيادة الحزبية بطريقة ”ديموقراطية“ بعيداً عن الوفاة وعن الانقلاب، وربما هذا ما يعطي صورة واضحة عن ”الطبعة الصينية“ من الديموقراطية.
لقد أكدت الجلسة الختامية للمؤتمر التي انعقدت الأحد ـ بعد سبعة أيام حامية من النقاشات الداخلية ـ تصميم الحزب ”على دفع مزيد من التنمية المتناسقة على اسس التناغم الاجتماعي وحماية البيئة وترشيد استهلاك الطاقة فضلا عن التوسع الاقتصادي“.
إنها كلمات بسيطة ولكنها تعتبر خطة عمل متكاملة لن يستطيع أحد معرفة مدى نجاح تطبيقها إلا بعد خمس سنوات، عندما ينعقد المؤتمر الثامن عشر في التيبت، وعندها ربما تكون الصين قد أصبحت فعلاً الاقتصاد الأول في العالم.. إن لم تكن باتت القوة العظمى الكبرى.
محمود ريا

كالأيتام على موائد اللئام!

لمن يشكو المواطنون، وهم باتوا كالأيتام على موائد اللئام؟ الوضع فوق أن يحتمل فعلاً، والصرخة لا تخرج من الأفواه التي تعقد المفاجأة الألسنة فيها، فيما العيون تقرأ الأسعار الجديدة لمواد أقل ما يقال فيها إنها أولية جداً للحياة.. بكرامة أو بدونها.‏
الناس يحتارون إلى من يلجأون، والبلد بلا مرجعيات، بلا قانون وبلا دستور.‏
لا الوزارة وزارة ولا السلطة سلطة، ولا الحكم حكم ولا التشريع تشريع ولا الرقابة رقابة.‏
الأسعار نار، والنار لا تكوي إلا المعرضين لها، فيما الأموال المكدّسة عند الكبار تطعم الثلج في جهنم (أو كما يقول مثلنا القروي: تُطْعِمُ في جهنم "بَأْسَما").‏
يتساءل اللبنانيون: لماذا يحصل هذا الآن وفي هذا التوقيت بالذات، هل المطلوب أن يتلهّوا بالتطورات السياسية عن عمليات السلب المكشوفة التي يتعرضون لها، أم العكس، أي أن المطلوب هو أن يصرخوا من الجوع كي ينسوا ما هو مرسوم لهم من مشاريع سياسية وعسكرية هدّامة؟‏
إما أن المسؤولين مسؤولون.. فليُسألوا، وإما أنهم غير مسؤولين.. فليرحلوا.. وليتّقِ من له لبّ غضبة الكريم إذا جاع..‏
والجوع بات على الأبواب.‏
محمود ريا‏

السبت، أكتوبر 20، 2007

العيد الثامن والخمسون


افتتاحية العدد التاسع عشر من نشرة "الصين بعيون عربية"
الفرح الظاهر في عيون الصينييـن وهـم يحتفلون بالذكرى الثامنة والخمسين لقيام جمهوريتهم الجديدة، لا يخفي حرصهم على التذكير بشكل دائم بالحقيقة التي يحرصون على الاحتماء خلفها، والتي يخافون منها في الوقت نفسه، وهي حقيقة أن الصين بالرغم من كل الانجازات الكبرى التي حققتها في ”مسيرتها الطويلة“ ولا سيما في السنوات العشرين الأخيرة، ما تزال دولة نامية.
هذا الواقع الذي لا يمكن الفرار منه يساعد الصين على تجاوز الكثير من العقبات التي تعترض مسيرتها الاقتصادية، إذ تسمح لها بالتهرب من مسؤوليات يفترض أن تضطلع بها الدول الاقتصادية الكبرى، وتساعدها على الاحتفاظ بالكثير من الامتيازات التفضيلية في التجارة الدولية، وتعطيها فرصة الدفاع عن تطورها الاقتصادي بالتأكيد على أن كل ما حصل حتى الآن هو مجرد خطوات صغيرة على طريق طويلة لا بد من الجدّ والاجتهاد قبل الوصول إلى نهاياتها.
هذا الواقع المريح على هذا الجانب، يعتبر حقيقة مقلقة من جانب آخر، حيث تقف الصين ـ الدولة العملاقة في كل شيء، من عدد السكان المهول إلى المساحة الكبرى إلى الاقتصاد الذي ينمو بنسبة لا مثيل لها عالمياً ـ عاجزة أمام وجود مئات الملايين من المواطنين الذين يعيشون بأقل من دولار يومياً، ووجود مناطق واسعة تحتاج إلى تنمية، ودخول عشرات الملايين من القوة العاملة سنوياً إلى سوق العمل بحيث ينبغي تأمين فرص العمل لها، إضافة إلى خطر التلوث الذي يهدد البلاد كلها.
أمام هذه المنغّصات لفرحة الاحتفال لا يجد الصينيون إلا الأمل بالمستقبـل الذي يتحدثون عنه وهم يرون بلادهم تتحضر لتجاوز ألمانيا ـ إن لم تكن تجاوزتها فعلاً ـ والتحول إلى القوة الاقتصادية الثالثة في العالم، وهم يسمعون باسم بلادهم تلهج به الألسنة بمختلف لغات العالم، وهم يملكون قوة عسكرية تتحول إلى قوة مهابة الجانب وقادرة على حماية البلاد من أي خطر خارجي.
هذا المستقبل بالضبط هو الذي يقلق الدول الكبرى التي باتت تخشى من التوجه الذي تسير فيه الصين والذي يجعل منها منافساً حقيقياً للدولة الكبرى على مستوى العالم من الناحيتين الاقتصادية وربما العسكرية.
من هنا تتكثف الدراسات والأبحاث التي تحاول الإجابة على سؤال خطير: الصين إلى أين؟
قبل مئتي سنة حذر نابليون من ”الخطر“ الكامن وراء استيقاظ ”العملاق النائم“، واليوم يتحقق ”الخطر“ بعد استيقاظ هذا العملاق، فهل تتحقق التوقعات التي ترى الصين القوة الأولى اقتصادياً ومن ثم سياسياً وعسكرياً بعد أقل من ثلاثين سنة؟
هذا ما يصبو إليه الصينيون، وهذا بالضبط كابوس غيرهم.
محمود ريا

القاعدة العسكرية الأميركية في لبنان : المخطط مرسوم.. والفشل بالانتظار

مطار القليعات: مركز القاعدة المنتظرة

لم تعد القصة مجرد معلومات صحافية تنقل عن مصادر أجنبية، وإنما أصبحت مجموعة معطيات متواترة ومتناسقة يمكن من خلالها الوصول إلى قصة متكاملة تؤكد ما يحاول البعض إنكاره: الولايات المتحدة تستعيد مشروعها الدائم الذي يقضي بتحويل لبنان إلى قاعدة عسكرية أميركية.‏
المعلومات التي وردت من أكثر من مصدر وعبر اكثر من وسيلة تكشف أن المشروع الأميركي بات في مراحله التنفيذية، وإذا كانت قاعدة القليعات الجوية هي بؤرة التركيز الأميركية لأكثر من سبب، فإن هذا لا يعني أن العسكريتاريا الأميركية غير مهتمة بمختلف المناطق اللبنانية الأخرى، بما يجعل لبنان كله مستعمرة عسكرية أميركية.‏
في إطار هذه "الرغبة الأميركية" الشرهة يضع الكثير من المراقبين كل ما جرى ويجري من احداث يشهدها لبنان في هذه الفترة، كما كان الأمر دائماً، حيث يمكن القول إن المحرك الحقيقي لكل التطورات العسكرية والسياسية التي شهدتها الأراضي اللبنانية هي مجرد مدخلات ثانوية في المشروع الاستراتيجي الكبير المتعلق بجعل لبنان قاعدة الانطلاق الأميركية نحو المنطقة.‏
وفي سياق هذا المشروع الأميركي المتكامل يمكن وضع تحركات ومواقف بعض القوى اللبنانية الداخلية التي يبدو أنها باتت جزءاً من هذا المشروع، سواء برضاها واختيارها وانطلاقاً من رؤية استراتيجية، أو مجبرة ومضطرة للحفاظ على وجودها السياسي وحتى المادي.‏
الحديث عن القاعدة الأميركية في الفترة الأخيرة ليس جديداً، وربما يمكن التذكير بما أشيع في اليوم التالي لاغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/ فبراير عام 2005 حيث أكد أكثر من مصدر أن الرئيس الحريري رفض السير في المشروع الأميركي لإقامة قاعدة جوية في القليعات في شمال لبنان، وقد أعلن رفضه النهائي لهذا المشروع نظراً لعلمه بالمخاطر التي سيجلبها على الوضع اللبناني. وقالت المعلومات حينها إن اغتيال الرئيس الحريري جاء بعد إبلاغه الأميركيين هذا الرفض.‏
حينها لم يتوقف أحد عند هذه المعلومات نظراً للجو السياسي والإعلامي الضاغط الذي مورس على اللبنانيين بهدف تحويل أنظارهم في اتجاه واحد في عملية الاغتيال ومن يقف وراءها.‏
إلا أن الحديث عن إقامة القاعدة العسكرية الأميركية في الشمال عاد للظهور في السنة الحالية مع ورود أكثر من معلومة ومن أكثر من مصدر تتحدث عن هذا الموضوع، ولا سيما بعد ما حصل في مخيم نهر البارد الذي نظر إليه المراقبون على أنه "عملية تنظيف" لمحيط القاعدة الأميركية المفترضة بالتواطؤ بين من كان داخل المخيم ومن سهّل دخولهم إليه.‏
الضابط السابق في الاستخبارات الأميركية، واين مادسن، أكد أن أحد الأهداف الأساسية الاميركية من وراء الفتنة في مخيم نهر البارد هو "استخدامها غطاء وذريعة كي تفسح الحكومة اللبنانية للقوات العسكرية الاميركية وقوات حلف الناتو انشاء منصة انطلاق من قاعدة القليعات الجوية" القريبة من مدينة طرابلس.‏
ومضى موضحا في حديث نقلته أكثر من صحيفة عربية أن قاعدة القليعات بحلّتها الجديدة ستستخدم مقرا لقيادة قوات التدخل السريع التابعة لحلف الناتو، واسراب الطائرات السمتية ووحدات القوات الخاصة. كذلك ستستخدم القاعدة "المستحدثة" لاجراءات تدريب قوات "الجيش اللبناني والقوى الامنية" بإشراف القوات الاميركية.‏
مصادر أخرى ربطت بين هذه المعلومات وبين الزيارات المتكررة للوفود العسكرية الأميركية التي ترددت إلى مطار القليعات، والذي تحدثت أكثر من صحيفة أميركية عن نية الإدارة استخدامه قاعدة جوية آمنة في محيط غير معادٍ (إذا ما أزيلت نقطة المخيم) يمتد من ضواحي بيروت الشرقية وحتى الحدود السورية شمالاً.‏
صحيفة "الديار" اللبنانية كانت قد نقلت ـ من خلال مراسلها في باريس بدرا باخوس فغالي ـ أن قيادة حلف شمال الاطلسي بتوجيه ‏مباشر من الولايات المتحدة الاميركية حسمت قرارها بعد عامين من التردد وقررت ضم الاراضي ‏اللبنانية الى لائحة الدول الواقعة في الساحل الافريقي لاقامة قواعد عسكرية جوية.‏‏
المثير في هذا الخبر الذي نشر في 15 نيسان/ أبريل 2007، أي قبل أحداث مخيم نهر البارد ما جاء فيه من تفاصيل وأهمها أنه "تبين لهيئة أركان الجيوش الاعضاء في حلف الاطلسي أهمية إقامة قاعدة جوية في ‏مطار القليعات القريب من الحدود اللبنانية ـ السورية، ناهيك عن امكانية استخدام هذه ‏المنطقة الشاسعة المساحة كنقطة تمركز لقوات مجوقلة مخصصة للتدخل السريع".‏‏
وكان وفد عسكري اميركي - الماني - تركي قام بجولة استقصائية في منطقة عكار، وقال في ‏تقريره الذي رفعه الى مقر الحلف الاطلسي في بروكسيل، ان إقامة القاعدة العسكرية ستسهم في ‏الإنعاش الإنمائي والاقتصادي في هذه المنطقة الشمالية المحرومة التي لن تتأخر مع بدء توافد ‏عديد القوات الاطلسية في الازدهار على غرار ما تشهده غالبية القرى والمدن الجنوبية مع ‏انتشار قوات الطوارئ الدولية، وإن كان حتى الآن بصورة خجولة!‏‏
ورأى معدّو التقرير أن التركيز على الشق المالي وانعكاس الإيجابية على سكان المنطقة سيساعد ‏بدون شك الحكومة اللبنانية على تسويق هذا المشروع تمهيداً لإعطاء موافقتها على إقامة ‏القاعدة العسكرية الاطلسية، وان كان تحت عنوان "مركز دولي لتدريب الجيش اللبناني وأجهزته ‏الامنية".‏
وقبل ذلك وفي الثالث والعشرين من آذار/ مارس 2007 لفتت صحيفة "الأخبار" إلى "ورشة ترميم وتأهيل بدأت في قاعدة القليعات الجوية في سهل عكار لمدرجي القاعدة اللذين تعرّضا للقصف الاسرائيلي إبان حرب تموز، فقد شوهدت شاحنات وجبّالات تقوم بردم الحفر الكبيرة التي أحدثتها الصواريخ الاسرائيلية، وصبّها بالإسمنت، وكذلك شوهدت أعمال أخرى عند المدخل الغربي للمطار.‏
ونقلت الصحيفة عن مصادر مطلعة توقفها "عند الحركة اللافتة للوفود العسكرية والأمنية للدول الغربية وخاصة الشرطة الفيدرالية والجمارك الألمانية في اتجاه المنطقة الحدودية بين العبودية والعريضة، التي توسّعت لتطال كل المنطقة الحدودية الشمالية مع سوريا البالغ طولها 90 كيلومتراً، من منطقة النبي بري في أعالي أكروم الى العريضة على الشاطئ، إضافة إلى الاجتماع الذي عقد في قاعدة القليعات وضم الوفد الألماني وضباطاً أمنيين لبنانيين، والمناورة التي جرت بالذخيرة الحية في حقل الرماية في قاعدة القليعات بحضور وفد أمني أميركي منذ أشهر قليلة"، و"تساءلت هذه المصادر عن الغاية من هذه التحركات، وما قد يتبعها من خطوات مرتبطة بالصراع الدائر إن في الداخل اللبناني وإن على المستوى الإقليمي".‏
بعد كل هذه التساؤلات والمعلومات جاء "الخبر اليقين" من "مصدره" حيث ذكر موقع "دبكا" الاستخباري الصهيوني في الرابع عشر من الشهر الحالي "أن قاعدة عسكريّة للقوّات الأميركيّة ستقام في منطقة "القليعات" الشمالية على بعد لا يتعدى الـ120 كلم من العاصمة السورية دمشق، والتي تشكل نقطة ارتكاز عسكرية مشتركة لكلّ من سوريا وايران".‏
وأضاف الموقع المذكور "ان هذه المنشأة الجوية للأميركيين تبعد 35 كيلومترا عن طرطوس، وعن القاعدة البحرية السورية الاولى ومركز القيادة البحرية الروسية في منطقة المتوسط"، مؤكّدا أن "أي طائرة ترسو في هذه القاعدة ستكون على مسافة دقائق معدودة عن مصانع الأسلحة والصواريخ المشتركة لسوريا وايران في مدينتي حمص وحماه".‏
ونقل الموقع عن مصادر استخباراتيّة "ان التغيير الجذري في سياسة ادارة الرئيس الأميركي جورج بوش تجاه لبنان، تم اقراره من خلال مشاورات جرت في البنتاغون ومجلس الامن القومي الاميركي، نتيجة للمحادثات التي قام بها القائد الاعلى للقوات الاميركية الأدميرال وليام فالون مع القيادات الحكومية في بيروت في 29 تموز/ يوليو الماضي".‏
ويشير الموقع الاستخباري الى أنه تم التأكيد على هذا الاتجاه الجديد بعد الغارة الجوية الصهيونية على سوريا في 6 أيلول الماضي، الأمر الّذي سيعيد احياء الوجود العسكري الاميركي في لبنان بعد 25 عاما من الغياب.‏
وأوضح الموقع ان "المرحلة الاولى من تنفيذ الإنشاء ستكون عبر اعادة تنشيط القاعدة الجوية الصغيرة وغير الفاعلة في القليعات في خطوة اميركية- لبنانية مشتركة".‏
وقال الموقع الصهيوني إن "مهندسين وتقنيين تابعين لسلاح الجو الاميركي بدأوا بالعمل على القاعدة الجوية الجديدة، وسوف يتم التوسّع بعد ذلك الى استخدام اميركا هذه القاعدة الجوية عسكريا".‏
بعد كل هذا يأتي ما كشفته صحيفة "السفير" أمس والذي يرقى إلى مستوى "المعلومات الرسمية" حول انتقال الإدارة الأميركية من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق في مشروع إنشاء القاعدة العسكرية في لبنان، وتحويل لبنان إلى محمية أميركية، ما يطرح الكثير من التساؤلات عن الدور الذي تلعبه قوى لبنانية في السلطة من أجل تمرير هذا المشروع الخطير الذي يترك تداعيات غير محمودة العواقب على مجمل الأوضاع في لبنان والمنطقة.‏
بعد كل هذا الاستعراض يبقى سؤال في أذهان كثير من المراقبين: هل يعتقد الأميركيون أنهم سينجحون الآن فيما فشلوا فيه على امتداد تاريخ علاقتهم بلبنان؟؟‏
وللإجابة عن هذا السؤال حكاية ـ طويلة ـ أخرى.‏
محمود ريا‏

السبت، أكتوبر 06، 2007

ميانمار: خاصرة الصين الرخوة


افتتاحية العدد الثامن عشر من نشرة "الصين بعيون عربية"
ألفان ومئة وخمسة وثمانين كيلومتراً من الحدود المشتركة، 21 مليار دولار أميركي من التبادل التجاري سنوياً، علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية استراتيجية، مشاريع نفطية ضخمة في كلا البلدين، إمكانية بناء مفاعلات نووية.
هذه هي باختصار شديد عناصر علاقة لا يمكن أن تنفصم بين الصين وميانمار، أو بورما كما هي معروفة في ”العالم الآخر“، وهي علاقة مقدّر لها أن تبقى على هذا القدر من القوة أياً كان الوضع الذي ستنتهي إليه الاضطرابات التي شهدتها العاصمة البورمية رانغون (أو يانغون) والعديد من المدن البورمية الأخرى.
هذا ”القدر“ هو المهدد من خلال ما يجري في بورما حالياً، ليس بسسب ما سينتج عن الاضطرابات، وإنما بسبب الظروف الاقليمية والدولية التي تجري فيها.
كل ما يقال عن القسوة التي يتعامل بها النظام العسكري البورمي مع أبناء شعبه صحيح، وربما ما يحصل على أرض الواقع أفظع مما يتسرب إلى لاخارج عبر وسائل الإعلام، وهذه الحقيقة لا يمكن لأحد تجاوزها، وخصوصاً مع المعلومات التي ترد عن الأوضاع الصعبة جداً التي يعاني منها أبناء الأقليات العرقية والدينية في بورما.
إلا أن هذه الحقيقة لا يمكن أن تحجب بالمقابل حقائق أخرى أساسية، أهمها ما يتعلق بالظروف التي اندلعت فيها موجة التظاهرات الجديدة، والخلفيات التي تقف وراءها وما مدى تدخل الدول الأجنبية في إثارتها.
يتفق الكثير من المراقبين على ان العوامل الداخلية والمحلية ليست العامل الرئيسي في تفجّر الأزمة البورمية وإنما هناك الكثير من العوامل المتعلقة بالواقع الجغرافي والاقتصادي لبورما فرضت نفسها على الأحداث ودفعت إلى انطلاق هذه التظاهرات التي راح ضحيتها العشرات من أبناء بورما بين قتيل وجريح.
إلا ان العامل الأبرز في هذه الأزمة حسب المراقبين هو ”العين الأميركية“ الني امتدت إلى النفط المخزون في الأرض البورمية، وإلى السعي الأميركي لجعل بورما ”خاصرة رخوة“ تتكئ عليها لمد يدها إلى ”الإقليم“، ولا سيما أن بورما تقع في موقع استراتيجي في بين الصين والمحيط الهندي وتطل على عمق البر الصيني في أكثر من موقع حيوي.
ومن هنا يبدو هذا التجييش الأميركي للعالم لدفعه إلى الاهتمام بما يحصل في بورما، بمثابة قرار أميركي بإحراج الصين في هذا الملف الحساس لدفعها لأن تتزحزح عن موقعها المميز في علاقتها مع بورما، أو أن تتحمل أوزار ما يحصل هناك أمام العالم، ما يفقدها موقع ”الدولة المسؤولة“ والقادرة على لعب دور في رسم مستقبل العالم.
فأي سبيل ستختاره الصين للرد على هذا ”الهجوم القوي“ الذي يستهدفها، وهل تملك الوسائل التي تساعدها على تحويل هذا الفخ الأميركي إلى عملية تغيير هادئ في بورما يضمن لها موقعها المميز في تلك الدولة؟
الجواب عند الأيام القادمة.
محمود ريا

الباب العالي

عدنا إلى حيث كنا، دارت الدائرة فينا ورجعنا إلى حيث انطلقنا.. والأمل الذي زرعته لقاءات الداخل فينا تكاد تبدده مرة أخرى لقاءات الخارج، ولا سيما تلك التي شهدها القصر (البيت) المسمى أبيض، كما كان يسمى باب السلطان المنخفض جداً في الآستانة بـ"الباب العالي".
هكذا هي الحال دائماً، لقد تعوّدنا على الهبّات الباردة والهبّات الساخنة حتى كدنا لا نفرح لنسمة ولا نعبس أمام لفحة هواء.
يأتون إلى لبنان بعد طول سفر، يعطوننا من طرف اللسان حلاوة، فيعتقد اللبنانيون أن الأمور تسير في سكّة الحل، فيفرحون ويهيّصون ويبنون قصوراً من الآمال، ثم لا يلبث الآتون أن يغادروا إلى "منابعهم" ليتحفونا على رؤوس الأشهاد بما ينفي أي إمكانية لحصول تلاقٍ أو تحقيق توافق.
هذه ليست المرة الأولى التي ندور فيها في هذه الدائرة، إنها "اللعبة" نفسها منذ فترة طويلة: تعقيد فـ"زيارة" إلى البلد تعطي تفاؤلاً، ثم "عودة" إلى الخارج لإطلاق النار من هناك على المبادرات والمبادرين.
لم يعد الوضع يحتمل.
لا بد أن تنتهي هذه "اللعبة".
محمود ريا