أول درس يتلقاه من يتعلم اللغة الصينية أنه ليس في قواعد هذه اللغة ماض أو حاضر أو مستقبل، وإنما هناك امتداد للزمان، وكلمة واحدة تعبر عن الأزمان الثلاثة.. وعلى "الشاطر" أن يفهم.
بهذه الصيغة تتعامل القيادة الصينية مع الأحداث، إنها استمرار منذ البدايات ـ فجر التاريخ ـ حتى النهايات التي لا يعلم أحد أين وكيف ستكون.
وبين البداية والنهاية مرت ـ وتمر على الصين ـ دول وامبراطوريات منافسة ومعادية، ولكنها تواجهها بنفس واحد، دون قطع مع تاريخها ولا شك في مستقبلها.
ربما من أجل ذلك ينظر الصينيون بقليل من الارتباك إلى ما يقال عن كونهم يتوجهون ليصبحوا قوة عظمى من جديد، فهذا القول لا يشكل فتحاً جديداً لبلادهم، وهي التي كانت على مدى العصور قوة عظمى تنبعث وتنكسر تبعاً للظروف والمتغيرات، متخذة من كل انكسار حافزاً للانطلاق من جديد.
بالمقابل هناك من يعيش همّ المواجهة مع الصين، إنها قوة عظمى جديدة نسبياً على المسرح الدولي وعلى التاريخ، ولذلك فهي تنظر إلى أي تهديد على أنه تهديد وجودي نهائي لا بد من التعامل معه بسياسة البتر والحذف والإلغاء، بدل اعتماد سياسة الاستيعاب والالتفاف والتفاهم.. هي الولايات المتحدة التي تعيش هاجس الصين ليل نهار، هاجسا عبر عنه مسؤول رسمي رفيع في وزارة الحرب الأميركية في أحد أعداد مجلة "الدفاع" الفصلية الذي صدر العام الماضي حين قال: تنظر في التقارير الموجزة للقوة الجوية الأميركية (حول الأهداف والمخاطر)، فتجد أنها كلها مليئة بكلمات: الصين، الصين، الصين.
الهاجس نفسه عبّر عنه تقرير من خمس وتسعين صفحة صدر الشهر الماضي عن إحدى اللجان المتخصصة في الكونغرس الأميركي تحت عنوان: التحديث البحري الصيني وتداعياته بالنسبة الى البحرية الأميركية. يقول التقرير إن حجم سلاح الغواصات الصيني سيبلغ بحلول عام 2010 ضعفي حجم سلاح الغواصات الأميركي، وإن الحكومة الصينية تستهدف أن يتفوق أسطولها بشكل عام ـ وليس الغواصات فقط ـ على الأسطول الأميركي عام 2015. ويعلّق المؤرخ الأميركي الشهير بول كينيدي على هذه "المعلومات" بالقول: لا يمكن للإدارة الأميركية أن تتغاضى عن هذا الواقع، ولا بد من أن تتصرف بشأنه.
ولكن كيف يكون التصرف؟
تحكم آلية تعامل الولايات المتحدة مع "الصعود الصيني" ثلاث نظريات:
الأولى تتحدث عن "التعاون" مع الصين من أجل الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي يتيحها هذا الصعود. فالمزيد من التعاون يؤدي إلى مزيد من انخراط الاقتصاد الصيني في المنظومة الاقتصادية الدولية، وهذا يؤدي بدوره إلى "تعديل طوعي" في النظام السياسي الصيني بما يحوّله إلى نظام ديمقراطي على النمط الغربي، الأمر الذي يجعل منه حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة بدل أن يكون عدواً لها.
النظرية الثانية تتحدث عن "احتواء" الصين عبر التعاون المدروس معها، وفي الوقت نفسه ممارسة الضغوط عليها لدفعها إلى تغيير سلوكياتها، بما يجعلها تحس بمنافع عدم الاعتراض على "القيادة الأميركية للعالم" من جهة، وبمخاطر مواجهة هذه "القيادة" من جهة أخرى. والتعبير الأكثر سطحية عن هذه النظرية هو تعبير استخدام العصا (المعنوية) والجزرة (الاقتصادية).
أما النظرية الثالثة التي تبدو معشّشة في أفكار الكثيرين من صنّاع القرار السياسي والعسكري في الولايات المتحدة، فهي ما يطلق عليها في بعض المحافل الضيّقة بـ"الخيار الأخير". وواضح أن المقصود هو خيار "الحرب الاستباقية"، إذ لا يمكن الانتظار حتى تنتهي الصين من استكمال استعداداتها العسكرية والاقتصادية الشاملة، ومن ثم الإمساك بزمام الأمور والبدء بالتحكم بالعلاقة بين البلدين.
كلمة الحرب ليست مستترة في التعامل بين العملاقين الأميركي والصيني، ولا تداريها كل صور التعاون والتعامل الاقتصادي بين البلدين، إنها خيار واقع عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في محاضرة ألقاها هذا الأسبوع في الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، حيث قال إن صعود الصين كقوة عالمية هو أمر حتمي، ويمكن "أن يزيد من مخاطر اشتعال الحرب. داعياً الولايات المتحدة إلى التعاون مع بكين في إقامة نظام عالمي جديد.
هي دعوة مهمة من فاتح باب العلاقات الأميركية الصينية من خلال دبلوماسية الـ"بينغ بونغ" في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وأول وزير خارجية أميركي يزور الصين الشيوعية بعد عقود من القطيعة، ولكنها دعوة تبدو بعيدة جداً عن التحقق، نظراً لوجود عقبات كثيرة أمام حصولها، أكثرها من الجانب الأميركي.. ولكن البعض منها موجود أيضاً في الجانب الصيني. فالروح "الماوية" التي حكمت العلاقة بين الولايات المتحدة والصين خلال النصف الثاني من القرن العشرين لا تزال محترمة جداً في أوساط جيش الشعب الصيني الذي تقلص عدد أفراده من ثلاثة ملايين فرد إلى مليون ونصف مليون، في مقابل ازدياد مستوى الحرفية وتطور نوعية الأسلحة والتخلص من الكثير من الملفات الاقتصادية الجانبية التي كانت ترهق هذا الجيش وتحول دون تحوله إلى جيش فعّال قادر على الحركة والمناورة في كل منطقة الشرق الآسيوي، إن لم يكن في كل العالم.
وما زال التاريخ الصيني السحيق يفرض نفسه شعوراً بضرورة العودة ـ يوماً ما ومن دون استعجال ـ إلى موقع الدولة الكبرى، وربما الدولة الأولى في العالم.
ولكن كيف ستتحقق هذه العودة؟
هو سؤال يرهق تفكير عشرات المفكرين والباحثين في أنحاء العالم، لا سيما في واشنطن وبكين. ولكن ليس بالضرورة أن يكون التفكير في اتجاه واحد، وإنما هناك من يفكر بكيفية تمكن الصين من تحقيق ذلك، فيما يفكر آخرون بكيفية منعها من تحقيقه.. ولو بالقوة العسكرية المجردة.
محمود ريّا
بهذه الصيغة تتعامل القيادة الصينية مع الأحداث، إنها استمرار منذ البدايات ـ فجر التاريخ ـ حتى النهايات التي لا يعلم أحد أين وكيف ستكون.
وبين البداية والنهاية مرت ـ وتمر على الصين ـ دول وامبراطوريات منافسة ومعادية، ولكنها تواجهها بنفس واحد، دون قطع مع تاريخها ولا شك في مستقبلها.
ربما من أجل ذلك ينظر الصينيون بقليل من الارتباك إلى ما يقال عن كونهم يتوجهون ليصبحوا قوة عظمى من جديد، فهذا القول لا يشكل فتحاً جديداً لبلادهم، وهي التي كانت على مدى العصور قوة عظمى تنبعث وتنكسر تبعاً للظروف والمتغيرات، متخذة من كل انكسار حافزاً للانطلاق من جديد.
بالمقابل هناك من يعيش همّ المواجهة مع الصين، إنها قوة عظمى جديدة نسبياً على المسرح الدولي وعلى التاريخ، ولذلك فهي تنظر إلى أي تهديد على أنه تهديد وجودي نهائي لا بد من التعامل معه بسياسة البتر والحذف والإلغاء، بدل اعتماد سياسة الاستيعاب والالتفاف والتفاهم.. هي الولايات المتحدة التي تعيش هاجس الصين ليل نهار، هاجسا عبر عنه مسؤول رسمي رفيع في وزارة الحرب الأميركية في أحد أعداد مجلة "الدفاع" الفصلية الذي صدر العام الماضي حين قال: تنظر في التقارير الموجزة للقوة الجوية الأميركية (حول الأهداف والمخاطر)، فتجد أنها كلها مليئة بكلمات: الصين، الصين، الصين.
الهاجس نفسه عبّر عنه تقرير من خمس وتسعين صفحة صدر الشهر الماضي عن إحدى اللجان المتخصصة في الكونغرس الأميركي تحت عنوان: التحديث البحري الصيني وتداعياته بالنسبة الى البحرية الأميركية. يقول التقرير إن حجم سلاح الغواصات الصيني سيبلغ بحلول عام 2010 ضعفي حجم سلاح الغواصات الأميركي، وإن الحكومة الصينية تستهدف أن يتفوق أسطولها بشكل عام ـ وليس الغواصات فقط ـ على الأسطول الأميركي عام 2015. ويعلّق المؤرخ الأميركي الشهير بول كينيدي على هذه "المعلومات" بالقول: لا يمكن للإدارة الأميركية أن تتغاضى عن هذا الواقع، ولا بد من أن تتصرف بشأنه.
ولكن كيف يكون التصرف؟
تحكم آلية تعامل الولايات المتحدة مع "الصعود الصيني" ثلاث نظريات:
الأولى تتحدث عن "التعاون" مع الصين من أجل الاستفادة من الفرص الاقتصادية التي يتيحها هذا الصعود. فالمزيد من التعاون يؤدي إلى مزيد من انخراط الاقتصاد الصيني في المنظومة الاقتصادية الدولية، وهذا يؤدي بدوره إلى "تعديل طوعي" في النظام السياسي الصيني بما يحوّله إلى نظام ديمقراطي على النمط الغربي، الأمر الذي يجعل منه حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة بدل أن يكون عدواً لها.
النظرية الثانية تتحدث عن "احتواء" الصين عبر التعاون المدروس معها، وفي الوقت نفسه ممارسة الضغوط عليها لدفعها إلى تغيير سلوكياتها، بما يجعلها تحس بمنافع عدم الاعتراض على "القيادة الأميركية للعالم" من جهة، وبمخاطر مواجهة هذه "القيادة" من جهة أخرى. والتعبير الأكثر سطحية عن هذه النظرية هو تعبير استخدام العصا (المعنوية) والجزرة (الاقتصادية).
أما النظرية الثالثة التي تبدو معشّشة في أفكار الكثيرين من صنّاع القرار السياسي والعسكري في الولايات المتحدة، فهي ما يطلق عليها في بعض المحافل الضيّقة بـ"الخيار الأخير". وواضح أن المقصود هو خيار "الحرب الاستباقية"، إذ لا يمكن الانتظار حتى تنتهي الصين من استكمال استعداداتها العسكرية والاقتصادية الشاملة، ومن ثم الإمساك بزمام الأمور والبدء بالتحكم بالعلاقة بين البلدين.
كلمة الحرب ليست مستترة في التعامل بين العملاقين الأميركي والصيني، ولا تداريها كل صور التعاون والتعامل الاقتصادي بين البلدين، إنها خيار واقع عبّر عنه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في محاضرة ألقاها هذا الأسبوع في الأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، حيث قال إن صعود الصين كقوة عالمية هو أمر حتمي، ويمكن "أن يزيد من مخاطر اشتعال الحرب. داعياً الولايات المتحدة إلى التعاون مع بكين في إقامة نظام عالمي جديد.
هي دعوة مهمة من فاتح باب العلاقات الأميركية الصينية من خلال دبلوماسية الـ"بينغ بونغ" في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وأول وزير خارجية أميركي يزور الصين الشيوعية بعد عقود من القطيعة، ولكنها دعوة تبدو بعيدة جداً عن التحقق، نظراً لوجود عقبات كثيرة أمام حصولها، أكثرها من الجانب الأميركي.. ولكن البعض منها موجود أيضاً في الجانب الصيني. فالروح "الماوية" التي حكمت العلاقة بين الولايات المتحدة والصين خلال النصف الثاني من القرن العشرين لا تزال محترمة جداً في أوساط جيش الشعب الصيني الذي تقلص عدد أفراده من ثلاثة ملايين فرد إلى مليون ونصف مليون، في مقابل ازدياد مستوى الحرفية وتطور نوعية الأسلحة والتخلص من الكثير من الملفات الاقتصادية الجانبية التي كانت ترهق هذا الجيش وتحول دون تحوله إلى جيش فعّال قادر على الحركة والمناورة في كل منطقة الشرق الآسيوي، إن لم يكن في كل العالم.
وما زال التاريخ الصيني السحيق يفرض نفسه شعوراً بضرورة العودة ـ يوماً ما ومن دون استعجال ـ إلى موقع الدولة الكبرى، وربما الدولة الأولى في العالم.
ولكن كيف ستتحقق هذه العودة؟
هو سؤال يرهق تفكير عشرات المفكرين والباحثين في أنحاء العالم، لا سيما في واشنطن وبكين. ولكن ليس بالضرورة أن يكون التفكير في اتجاه واحد، وإنما هناك من يفكر بكيفية تمكن الصين من تحقيق ذلك، فيما يفكر آخرون بكيفية منعها من تحقيقه.. ولو بالقوة العسكرية المجردة.
محمود ريّا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق