الأحد، يناير 01، 2006

اغتيال الحريري يرسم خريطة العام:تحقيق قضائي بآليات سياسية


إذا كان لكل عام سمة، فإن العام 2005 حمل لافتة عريضة اسمها الاغتيال، ومنها تفرعت عناوين أخرى، تلبّست بكلمات كبرى: الحقيقة، التحقيق، الأدلة، تقصي الحقائق، فيتزجيرالد، اللجنة الدولية، المحقق الدولي، ميليس، التقرير الأول، التقرير الثاني، محمد زهير الصديق، هسام هسام، الضباط الأربعة...‏
كلها تعابير تنقل صورة حقيقية عن واقع فرض نفسه على الساحة اللبنانية ابتداءً من الرابع عشر من شباط/ فبراير، ووصولاً إلى منتصف ليل آخر يوم من هذه السنة.. دون أن ينتهي هناك.‏
اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الحدث الذي شغل اللبنانيين على مدى العام، وخلق وقائع وفرض تطورات وقاد إلى اتجاهات مختلفة عما كان سابقاً هو الحدث الذي سيترك نفسه علامة فارقة في المسار السياسي اللبناني على مدى عقود.


الرابع عشر من شباط/ فبراير..‏
دوى الانفجار، إنها الساعة الواحدة إلا أربع دقائق من بعد الظهر تقريباً، انقلبت منطقة الفنادق في العاصمة بيروت رأساً على عقب، ومعها انقلبت كل الساحة السياسية والأمنية اللبنانية، لتبدأ مرحلة جديدة من التاريخ السياسي اللبناني.‏
كان الانفجار ضخماً ورهيباً، استهدف موكب الرئيس الحريري المؤلف من عدة سيارات، فدمرها جميعاً، ودمر معها كل المنطقة والفنادق التي تصطف على جانبي الطريق، تاركاً حفرة ضخمة في منتصفه، ستتحول هي ذاتها ـ الحفرة ـ إلى قضية ضمن قضية التحقيق بما حصل.‏
استشهد الرئيس رفيق الحريري فوراً في الانفجار، ومعه استشهد اثنان وعشرون شخصاً، فيما التحق به النائب باسل فليحان بعد أسابيع قضاها في معاناة قاسية نتيجة الحروق التي لحقت به، والتي لم تنفع علاجات فرنسا في التخفيف من أثرها.‏
بعد الانفجار انطلقت تحقيقات مكثفة قامت بها الأجهزة اللبنانية المختلفة، وذلك في ظل جو أمني وسياسي وشعبي ضاغط، وقد توصلت هذه التحقيقات إلى معطيات أساسية أكدت صحتها فيما بعد التحقيقات الدولية: انفجار فوق الأرض، شاحنة ميتسوبيتشي مفخخة بمئات الكيلوغرامات من المتفجرات، رصد دقيق للموكب المستهدف، تشويش على أجهزة التشويش الموجودة في موكب الرئيس الحريري...‏
الجو النفسي والسياسي الضاغط، والتهديدات والاتهامات عكست نفسها نوعاً من الإحباط والتخبط لدى الأجهزة القضائية، ولا سيما في ظل تصاعد الحديث عن المطالبة بتحقيق دولي في الجريمة، نظراً لعدم ثقة المعنيين في منزل الرئيس الحريري بالتحقيق الذي تجريه الأجهزة اللبنانية، وبعد طروحات تتحدث عن إمكانية إنشاء لجنة تحقيق عربية جرى رفضها، انطلقت عملية قضائية معقدة بدأت منذ يوم الخامس والعشرين من شباط/ فبراير بوصول بعثة تقصي حقائق دولية إلى بيروت يرأسها بيتر فيتزجيرالد.‏
أصدرت لجنة فيتزجيرالد تقريرها في الخامس والعشرين من شهر آذار/ مارس وفيه أنه "طالما أن مصداقية السلطات اللبنانية التي أجرت التحقيقات كانت موضع تساؤل، فيجب إجراء تحقيق دولي مستقل لإقامة الحقيقة. ولهذا الغرض، هناك حاجة لإنشاء فريق له سلطات تنفيذية، يغطي كل حقول الخبرات الضرورية لتحقيق من هذا النوع".‏
أخذ مجلس الأمن الدولي المبادرة وأصدر في السابع من نيسان/ أبريل القرار 1595 الذي قضى بتشكيل "لجنة التحقيق الدولية المستقلة" بجريمة اغتيال الرئيس الحريري.‏
لقد جاء تشكيل هذه اللجنة في ظل حصول عدة تفجيرات في مناطق عديدة من جبل لبنان أدت إلى مقتل وجرح عدد من الأشخاص، وفي ظل اتهامات موجهة إلى قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية بالمشاركة في جريمة الاغتيال، أو في تسهيل حصولها أو في الاستهتار الذي أدى إلى تسهيل حصولها، وهذا ما وضع قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية الأربعة: الأمن العام اللواء جميل السيد ولواء الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان وقوى الأمن الداخلي اللواء علي الحاج ومخابرات الجيش اللبناني العميد ريمون عازار، في خانة الاتهام، ودفع بقادة هذه الأجهزة إلى الاستقالة قبل أن يتم اعتقالهم في الثلاثين من آب/ أغسطس.‏
انطلاق العمل‏
كان انطلاق عمل لجنة التحقيق سريعاً، ففي 26 أيار/ مايو، وصل فريق متقدم صغير من اللجنة يرأسه ديتليف ميليس الى بيروت، وفي 13 حزيران/ يونيو، وبعد مناقشات مكثفة مع السلطات القضائية اللبنانية، وقعت مذكرة تفاهم بين حكومة لبنان واللجنة. وفصلت المذكرة أشكال التعاون بين الفريقين تضمنت تأكيداً على "ان حكومة لبنان سوف تضمن أن اللجنة ستكون حرة من أي تدخل في ممارسة تحقيقها، وأن تزود بكل المساعدة الضرورية لإنجاز مهمتها".‏
بعد ثلاثة أيام أعلن الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بدء لجنة التحقيق عملها بشكل رسمي، وفي اليوم التالي، السابع عشر من حزيران/ يونيو عقد رئيس اللجنة ميليس مؤتمره الصحافي الأول الذي ضمّنه استنتاجاته الأولية، قبل الانطلاق بالعمل بشكل رسمي.‏
لقد كانت الأجواء توحي بأن هناك هدفاً قد وضع، وهو تحميل سوريا مسؤولية عملية الاغتيال، وأن كل ما يحصل على صعيد لجنة التحقيق هو إيجاد الطريق الذي يوصل إلى هذا الهدف، ولذلك فقد انصبّت كل التسريبات التي صدرت عن رئيس اللجنة وعن الأوساط المقرّبة منها، عند "الحقيقة" التي قيل إنها اكتُشفت منذ الدقائق العشر الأولى التي تلت عملية الاغتيال، وعلى هذا الأساس بدأ الحديث عن القادة الأمنيين الأربعة وعن قادة أجهزة الاستخبارات السورية في لبنان وعن شقق في الضاحية وخلدة ومن ثم عن شهود أساسيين من بين الشهود الخمسمئة الذين أخذت إفاداتهم، وسمي من بينهم شاهد ملك وشاهد مقنّع وغيرهما من الأسماء التي أطلقت، إلا أن الوقائع التي وردت في تقريري لجنة التحقيق اللذين صدرا يومي 19 تشرين الأول/ أكتوبر و12 كانون الأول/ ديسمبر والتي بنيت على أقوال هؤلاء الشهود تعرضت لامتحان شديد نتج عن سقوط مصداقية شاهد أساسي (محمد زهير الصديق) بسبب ثبوت كونه مجرد محتال لا يملك أي صدقية على المستويين الشخصي والقانوني، وتراجع شاهد أساسي آخر (بني القسم الأكبر من تقرير ميليس على أقواله) عن إفادته في شهادة مدوية أدلى بها للتلفزيون السوري يوم السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر ليتحول "الشاهد المقنع" إلى "الفضيحة المكشوفة" هسام طاهر هسام.‏
وبين "بناء" قضية اتهام سوريا بالعملية إثر تقرير ميليس الأول، وتهافت أركان هذه القضية في الأيام الأخيرة صدر قراران عن مجلس الأمن الدولي كان الأول منهما حاد اللهجة والمضمون ويحمل الرقم 1636 وصدر في الواحد والثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر داعياً سوريا إلى التعاون مع لجنة ميليس ومهدداً إياها بعقوبات دولية وبما هو أكثر إن لم تفعل، أما القرار الثاني ويحمل الرقم 1644 فقد صدر في الخامس عشر من كانون الأول/ ديسمبر وجاء بمثابة خطوة تراجعية عن اللهجة التهديدية التي حواها التقرير الأول، وذلك بعد انهيار الشهادات التي قام عليها التقرير الأول لميليس، وإبداء سوريا التعاون الكامل مع اللجنة والذي نجم عنه انتقال خمسة من المسؤولين الأمنيين السوريين إلى فيينا للتحقيق معهم من قبل لجنة ميليس (5 و7 كانون الأول/ ديسمبر) ومن ثم عودتهم إلى سوريا، بالرغم من أن ميليس وضعهم في تقريره الثاني في خانة المشتبه بهم بعد أن كانوا في خانة الشهود.‏
بعد أن مدد مجلس الأمن الدولي (بناءً على طلب الحكومة اللبنانية) مهمة اللجنة الدولية مرتين (الأولى في 19 تشرين الأول/ أكتوبر حتى 15 كانون الأول/ ديسمبر والثانية في الرابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر ولمدة ستة أشهر) أعلن رئيس اللجنة ديتليف ميليس قراره التنحي عن رئاسة لجنة التحقيق الدولية بحجة أنه أنهى الفترة التي انتدب نفسه فيها لقيادة التحقيق الدولي، فيما تحدثت مصادر مقربة منه عن مناصب عرضت عليه في بلده، وعن وضع عائلي فرض عليه العودة إلى ألمانيا، في حين رأت مصادر متابعة لعملية التحقيق أن الثغرات الخطيرة التي وقع فيها ميليس خلال إجرائه التحقيق والتي كشف عنها سقوط الشاهدين الصديق وهسام، وما قيل عن محاولات لاستدراج أشخاص آخرين للإدلاء بأقوال تخدم الخط الذي أريد للتحقيق أن يسير به (كما حصل مع لؤي السقا في أحد السجون التركية)، كل هذا دفع ميليس إلى التنحي من أجل الحفاظ على بعض المصداقية التي بقيت له، في حين يستمر التحقيق برئاسة شخص آخر من المرجح أن يكون البلجيكي بريميريتز الذي يتوقع أن يتسلم من ميليس ملفات التحقيق ومن ثم ـ ربما ـ البدء من جديد.‏
وقد ترافق هذا التغيير في رئاسة اللجنة مع محاولات محلية لبنانية من أجل توسيع مهمة لجنة التحقيق الدولية لتشمل جرائم أخرى وقعت على الأراضي اللبنانية، أو تشكيل لجنة تحقيق دولية أخرى لتولي مهمة التحقيق فيها، إضافة إلى إيكال مهمة البت بقضية اغتيال الرئيس الحريري إلى محكمة دولية أو محكمة ذات طابع دولي، وقد جاء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1644 ليخفض من سقف طموحات هذه الأطراف عندما اكتفى بإبداء الاستعداد لتقديم مساعدة تقنية للبنان في تحقيقاته بالجرائم الحاصلة على أرضه، وعندما رد طلب تشكيل المحكمة الدولية إلى السلطات اللبنانية لتوضيح ماذا تقصده بهذه المحكمة.‏
وإذا كان ميليس قد أنهى رئاسته للجنة التحقيق بـ"تنفيس" الهالة التي نسجت حوله، والتي حوّلته إلى ما يشبه الأسطورة، فإنه أبى أن يترك موقعه دون أن يعيد التأكيد على "قناعاته" بأن سوريا ـ ومعها قادة الأجهزة الأمنية اللبنانية ـ هي التي تقف وراء عملية الاغتيال، دون أن يكون قدم خلال ستة أشهر من ترؤسه للجنة التحقيق أي دليل على هذا الكلام.‏
محمود ريا‏