الوفد الأميركي زار بيروت ليدشّن الأسلوب الجديد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أتت زيارة الوفد الأميركي "الثنائي الرأس" إلى لبنان أول الأسبوع الفائت لتعلن وضع لبنان في قلب معمعة السيطرة الأميركية على قوى الموالاة، بعد أن كانت عملية الهيمنة على قرار هذه القوى تتواصل على مدى الأشهر الماضية.
ويمكن القول دون كثير وجل إن زيارة هذا الوفد ـ الذي ترأسه رسمياً مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد ولش، فيما كان رئيسه الفعلي نائب مستشار البيت الأبيض للأمن القومي إيليوت إبرامز ـ تعتبر محطة فاصلة في مسيرة (العلاقة) بين الإدارة الأميركية وقوى الموالاة التي لا تزال تفضل وصف نفسها بـ"قوى الأغلبية"، حيث انها جاءت كـ"إعلان رسمي" عن وضع اليد الأميركية على هذه القوى، بعد أن كانت في الماضي تختفي وراء أغطية عربية ودولية مختلفة.
ربما أصبح من غير المنصف وصف ما يحصل بين قوى الموالاة والإدارة الأميركية بأنه "وصاية" على الموالاة، لأن الأمور تخطت منذ زمن طويل هذا الوصف، لتصل إلى حد السيطرة المطلقة والمباشرة من مسؤولي الإدارة ـ بدءاً من سفير عوكر جيفري فيلتمان ووصولاً إلى سيد البيت الأبيض جورج بوش ـ على الموالاة بتلاوينها وأحزابها وتياراتها، بحيث لم تعد هذه الموالاة تسير "على هدي" الإرشادات الأميركية، وإنما بناءً لأوامر مباشرة تصل إلى حد الدخول في التفاصيل، مترافقة مع تأنيب شديد على الفشل السابق، وربما اللاحق.
هذا المناخ الجديد في التعاطي مع الموالاة خرج من دائرة الغرف المغلقة، وبات على صفحات الجرائد التي أخذت تنقل "عجائب" ما يحصل خلال اللقاءات بين المسؤولين الأميركيين وقياديي الموالاة في لبنان وخارجه، بحيث بات الحديث عن "تعاون دولي" مع لبنان نكتة سمجة يكاد اللبنانيون يسأمون من تردادها.
زيارة ولش ـ إبرامز الأخيرة كانت مثالاً على هذا النمط من التعاطي، وما تسرّب من كواليسها فتح المجال لرسم صورة واضحة عن حجم الحرية التي يتمتع بها "الاستقلاليون" في تعاطيهم مع التطورات على الساحة اللبنانية.
فقد جاء الوفد الأميركي إلى لبنان من أجل تقديم الدعم للبنان في مسيرته على طريق الحرية كما عبر الرئيس الرسمي للوفد (ولش) في أكثر من محطة خلال جولته التي اقتصرت على قياديي 14 آذار بكل تلاوينهم، وتوسع الهدف من الزيارة باتجاه إعطاء "تطمينات" لهذه القيادات بأن "أي صفقة على حساب الحقيقة" لن تتم. والمقصود بـ"الصفقة" هنا، هو أي اتفاق أميركي سوري، أو أميركي عربي سوري من أجل "التراجع عن الوصول إلى الحقيقة الكاملة" في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
وكان الحديث عن صفقة من هذا النوع بدأ يتسرب من تصريحات قياديي الموالاة الذين رأوا في المحادثات التي جرت على مرحلتين في السعودية جزءاً من الاتفاق على "حماية النظام السوري" مقابل تعاونه الكامل مع التحقيق ـ على الصعيد الإقليمي ـ إضافة إلى عودة وزراء حزب الله وحركة أمل إلى الحكومة بعد التوصل إلى تفاهم من نقاط عدة تشمل المقاومة وآلية اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء ومسألة التعيينات الأساسية.
وفي حين كان التفاهم على الكثير من هذه البنود يأخذ طريقه إلى العلن، كانت الاتصالات الأميركية مع القيادات الفاعلة في الموالاة تتكثف، والهدف الأساسي منها كان "خربطة" الاتفاق في شقه الداخلي ومنع حصول الاتفاق في شقه الخارجي.
وبين الاتصالات المباشرة مع السعودية والاتصالات بالواسطة على خط واشنطن ـ بيروت ـ الرياض كانت اتصالات أخرى تجري على خطوط متقاطعة من جهة أخرى عقّدت أجواء التوافق التي كادت تصل إلى نتيجة في أكثر من مجال.
وبين التصريحات الصادرة عن وزيرة الخارجية الأميركية غونداليزا رايس في واشنطن، وتحركات السفير الأميركي جيفري فيلتمان في بيروت، جاءت "الزيارة العائلية" لوفد ولش ـ إبرامز كي تكمل حلقة الحصار المحلي الدولي لهذه الأجواء التوافقية عبر بث روح الحماسة في القيادات الموالية من جانب، وتوجيه التأنيب لها على تراخيها وتخلفها عن تنفيذ وعودها بالسيطرة المطلقة والنهائية على التطورات في لبنان من جهة أخرى.
بداية الهجمة الأميركية الجديدة بدأت إذاً من عند رايس نفسها التي أصدرت منذ ما قبل نهاية الأسبوع الماضي بياناً مكتوباً يحمل تهديدات عنيفة لسوريا، وينفي عملياً أي حديث عن صفقة ما توافق عليها الولايات المتحدة حول موضوع العلاقات مع سوريا.
هذا الجو التصعيدي الأميركي عكس نفسه في التحركات المكثفة التي قام بها فيلتمان على كل الخطوط اللبنانية الداخلية، ابتداءً من العاصمة بيروت وصولاً إلى أقاصي جبل لبنان شمالاً وجنوباً حاملاً رسالة واحدة تنص على وجوب رصّ صفوف المعارضة ـ الموالاة وتوحيد جهودها من أجل السير بالوضع اللبناني في الخط الذي ترغب به هذه الموالاة، بعيداً عن التعاون مع القوى التي كانت تمثل الشق الآخر من التحالف الرباعي، والمقصود بها بالطبع حزب الله وحركة أمل.
وقد عمل فيلتمان على التعبير عن هذه الرؤية الأميركية في أكثر من لقاء، وبالشكل الذي ظهرت تفاصيله على صفحات الجرائد اللبنانية.
في إطار هذه الأجواء جاءت الزيارة المستفزة للوفد الأميركي "الرفيع المستوى" إلى بيروت، والتي استمرت يوماً واحداً، وتوزعت اللقاءات على زيارات قام بها الوفد إلى "الحواضر الرئيسية" لفريق الموالاة في المختارة والسراي الحكومي وحواضر 14 آذار الأخرى في بكركي والرابية، وعلى لقاءات جرت في السفارة الأميركية في عوكر كشف منها لقاء لافت جمع ثلاثة مرشحين لرئاسة الجمهورية دفعة واحدة هم نايلة معوض ونسيب لحود وبطرس حرب.
واستكملت هذه اللقاءات بلقاء آخر عقد في باريس ضم الوفد الأميركي إلى رئيس تكتل المستقبل النيابي سعد الحريري ـ حيث كانت وجهات النظر "متطابقة" ـ الذي تابع بدوره لقاءاته الأميركية باجتماع هام عقده مع نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في العاصمة السعودية الرياض.
ما تسرب عن هذه الجولة الواسعة من اللقاءات يوضح إن محاولات "النفخ" الأميركية في قِربة الموالاة اللبنانية ذهبت بمعظمها أدراج الرياح، ليس لغياب القابلية عند الكثير من أطراف الموالاة للاستجابة للمطالب الأميركية، وإنما بسبب الظروف الواقعية الموجودة على الساحة اللبنانية والتي تقطع الطريق على هذه القوى في سعيها لتنفيذ الأوامر الأميركية.
وبالرغم من محاولة هذه القوى إفهام السيد الأميركي أن ما يطلبه صعب التحقيق على الأرض (هو مستحيل فعلياً، ولكن لا يمكن قول ذلك مباشرة) فإن وفد ولش ـ إبرامز رفض سماع أية أعذار، ووجه جملاً قاسية إلى مستضيفيه وضيوفه على حد سواء، مشدداً على تنفيذ القرار 1559، ومنع عودة حزب الله وحركة أمل إلى الحكومة. وقد تزامن الإعلان عن الرغبة الأخيرة مع إطلالة مسؤولة أميركية بارزة في وزارة الخارجية الأميركية على شاشة مؤسسة مرئية لبنانية لتقرّر أن "حزب الله وحركة أمل لا يمثلان الشيعة في لبنان، وأنه يمكن الإتيان بشخصيات شيعية أخرى للحلول محل الوزراء الحاليين في الحكومة"!
ولم ينتهِ الأسبوع دون أن تظهر إشارة جديدة إلى الهجمة الأميركية على لبنان، حيث أعلنت رايس عن إلغاء أكثر من مئة وظيفة في السفارات الأميركية في أوروبا وغيرها لنقلها إلى دول ناشئة كـ"لبنان والصين والهند".
ويبدو أن على اللبنانيين انتظار وصول ضيوف آخرين ثقلاء الظل، ينطلقون من تلك الفيلا المعزولة في عوكر لنقل الإملاءات والشروط من السيد الأميركي إلى "المسؤولين اللبنانيين" والقياديين الذين يتقنون السمع جيداً إلى هذه الإملاءات، فيما بعضهم يرى نفسه مسروراً جداً بها، حتى لو كانت من نوع توجيه التهديد إلى الإعلام (الكلام الوقح الموجه من السفير فيلتمان إلى صحيفة السفير) أو من نوع خلق فتنة بين اللبنانيين بمختلف فئاتهم وطوائفهم (الكلام الذي نقلته صحيفة السفير عن السفير فيلتمان) كرمى لعيون المشروع الأميركي الذي لا يأخذ المصلحة اللبنانية بعين الاعتبار.
محمود ريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق