يبدو لبنان مخلوقاً هجيناً وهو يعيش مرحلة يرى فيها أبناؤه "عاصمتهم" تقع على بعد آلاف الكيلومترات عن وطنهم، في المنفى الباريسي المخملي، فيما مدنهم الكبرى، وبينها ما كان يعرف بالعاصمة بيروت تعيش حالاً من القلق والتوتر بانتظار ما سيصدر من "الباب العالي" الفرنسي ـ الأميركي من قرارات ترسم مستقبل هذا البلد، وتحدد خياراته.
في باريس تعقد الاجتماعات، فيختلط "الحابل بالنابل"، ويضيع المراقب في متابعة من اجتمع مع من، ومن استقبل من، ومن ودّع من، ولكن لا يغيب عن باله الهدف الأساسي من هذه الاجتماعات التي تتكاثر يوماً بعد يوم، إنه رسم خريطة جديدة للمنطقة، أو كما يقول البعض إنه نوع من "سايكس ـ بيكو" جديد، يرسم خطوطه مخرجون ومنتجون ذوو قدرات ضخمة، فيما يلعب الكثيرون دور الكومبارس.
بين الـ1559 والـ1595، والتقريرين اللذين صدر أحدهما وينتظر الآخر، يبدو أن الأمور تشابكت، وأن ما أراده الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان من "فصل بين مساري" القرارين الدوليين قد بات في خبر كان، نتيجة تداخل معطيات هذا القرار مع ذاك، بحيث بات الوضع يشبه تطبيق عبارة من هذا القرار، ثم كلمة من القرار الآخر.. وهكذا دواليك.
وإذا كان لبنان هو المعني المباشر بالقرارين وما صدر من تقارير حولهما، فإن ما يجري في الاجتماعات المغلقة والمفتوحة يشي بأن ما يجري هو استخدام هذين القرارين كـ"خارطة طريق" للوصول إلى أهداف مشروعٍ ما تُجدل خيوطه ما بين باريس ونيويورك.. وواشنطن.
وفي قلب هذه المعمعة يبدو لبنان موجوداً، على الطاولة بشكل مؤكد، ولكن لا يبدو واضحاً إذا كان موجوداً حول الطاولة، وإذا ما كانت الاجتماعات التي تعقد مع المسؤولين اللبنانيين الموجودين في العاصمة الفرنسية هي من أجل "التشاور معهم" ومناقشة آرائهم والإطلاع على تقويمهم للأوضاع، أم من أجل تبليغهم بما تم الاتفاق عليه، في لقاءات الرئيس الفرنسي جاك شيراك مع وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس الأسبوع الفائت في باريس، وبين رايس والأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان ـ بشكل مفاجئ ـ في نيويورك، وفي الاتصالات الجارية خلف الكواليس مع مسؤولين يخرجون للملأ متبجحين بأنهم هم من رسموا خريطة الوضع الحالي قبل أكثر من سنة (وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم).
ومقابل هذا التساؤل هناك تساؤل آخر حول كيفية تلقي المسؤولين اللبنانيين، رؤساء ووزراء ونواباً وشخصيات سياسية، لما يلقى عليهم، وهل يأتي رد فعلهم في إطار الخضوع أم الموافقة والتأييد، أم في إطار الممانعة ومحاولة التململ، سواء أدى هذا "الاعتراض الداخلي" إلى نتيجة أم لم يؤدِّ، وبالتالي فهل إن "تعدد اللهجات" في التعبير عن المواقف، والتغير في حرارة التصريحات بين الداخل والخارج، وبين عاصمة عربية وأخرى أوروبية، هو نتيجة تنسيق في التعبير بشكل مرن عن موقف واحد وموحد، أم أنه انسياق في أجواء هذا التيار أو ذاك، بما يجعل السياسة اللبنانية كلها في مهب الريح الآتية من هنا وهناك؟
كل هذه الأسئلة تعيش في ذهن المواطن اللبناني الذي ينتظر أن تتوضح الصورة المليئة بالضباب التي تحيط به من كل جانب، والتي يتوقع لها أن تزداد غموضاً خلال الأيام القادمة.
وإذا كان مجلس الوزراء اللبناني تحول إلى آخر من يعلم حول التصريحات والمواقف التي تطلق من قبل المفترض أن يكونوا معبرين عن رأي المجلس وقراراته، فإن المتوقع هو أن تشهد الأيام القادمة جلاءً لكيفية التعاطي مع القضايا الأساسية داخل المجلس، ولا سيما قضايا كمسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا ـ بما فيها منطقة مزارع شبعا ـ وتبادل السفارات بين بيروت ودمشق، والاتفاقات التي جرت وتجري حول موضوع السلاح الفلسطيني في لبنان.
وفي هذا الإطار تأتي "صدفة" وجود رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس معاً وفي الوقت نفسه في العاصمة الفرنسية ليجتمعا ويتفقا على رفض السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، وعلى إيجاد السبل لنزعه داخلها، مع ما يعنيه ذلك من حل لعقدة أخرى من العقد التي تعترض تطبيق القرار الدولي 1559 بكل تفاصيله.
وفي هذا الإطار أيضاً يأتي الدعم الفرنسي الشامل والكامل للبنان، وعلى مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، والذي أعلن عنه أكثر من مسؤول لبناني كبير، مترافقاً مع معلومات سرّبت من باريس تحدثت عن "مبادرة" فرنسية جديدة تهدف إلى تحريك ملف التسوية على المسار اللبناني الإسرائيلي.
ويمكن في هذا المجال إدخال المعلومات ـ والمعلومات المضادة ـ حول "صفقة" سورية أميركية فيما يتعلق بملف اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهي المعلومات التي نفتها سوريا مطلقاً، وأتبعتها وزيرة الخارجية الأميركية بالحديث عن تشديد الضغوط على سوريا من ناحية، وبتأكيد رفض استبعاد الخيار العسكري في التعامل مع "الملف السوري" من ناحية ثانية.
وفي خضم هذه الدوامات التي وجد لبنان نفسه محاطاً بها يبقى الموقف العربي على ما هو معروف عنه، سلبية مطلقة في التعاطي مع التطورات، عبرت عنها التمنيات المصرية بعدم تحريك ملف النظام في سوريا مع ما يعنيه ذلك من خلق بؤرة عدم استقرار أخرى في المنطقة التي تعاني بما فيه الكفاية من "الفوضى الخلاّقة" التي تذرّ بقرنها في العراق وفي لبنان وفي فلسطين، وربما في السعودية وغيرها من دول المنطقة... وصولاً إلى سوريا، دون أن يوحي هذا الاعتراض المصري بوجود أي تغيير في تصورات المخططين.
ولا يخفي القائمون على إشاعة هذه الفوضى هدفهم منها، وهو تأمين الحماية لـ"إسرائيل" وتحقيق الأهداف الأميركية الأوروبية في المنطقة بعيداً عن "البحث عن الحقيقة" أو محاولة تحقيق العدل، وهذا ما عبّر عنه "ناظر القرار 1559" المبعوث الدولي تيري رود لارسن عندما تحدث مباشرة عن سلاح المقاومة في لبنان، معتبراً أن لا مبرر له بعد الآن، بل انه لم يكن له مبرر منذ عام 2000 حين انسحب الصهاينة من القسم الأكبر من جنوب لبنان.
هذا ربما ما دفع رئيس كتلة تيار المستقبل النيابية سعد الدين الحريري إلى القول ـ بعد لقائه الرئيس المصري حسني مبارك والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في القاهرة ـ إنه يرفض تحويل قضية استشهاد الرئيس رفيق الحريري إلى "قميص عثمان" يمكن من خلاله تحقيق مآرب أخرى غير الوصول إلى الحقيقة.
وإذا كانت هذه الوقفة من الحريري تعبر عن خشية حقيقية لديه من حصول هذا الأمر، فإن هذا ربما يكون انعكاساً لما يسمعه ويشاهده من خيوط ترسم في باريس وغيرها من العواصم العالمية، وتهدف إلى تغيير طبيعة المنطقة بكاملها، وحرف مسارها وإدخالها كاملة في العصر الأميركي الصهيوني.
إنه رسم خريطة جديدة للمنطقة.. باستخدام "القلم اللبناني".
محمود ريا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق